
انتقدني بعض أصدقاء الإنستغرام على كثرة منشورات الاقتباسات، وهذا النقد يحتاج إلى مزيد من التوقف والتأمل. ففي كل مقال أو دراسة بحثية هناك نسبة من الاقتباس التي يسمح بها. تقدر في الدراسات العلمية بحدود 5-25 %، وتختلف باختلاف المؤسسة العلمية المشرفة. حتى خوارزميات غوغل أو ما يعرف بـ SEO، فإنها لا ترشح المقالات التي تكثر فيها الاقتباسات عن نسبة معينة. فهي تعتبر ذلك سرقة لجهود الآخرين، خصوصاً عندما لا يشار إلى المصدر.
رغم ذلك، فإن الاقتباسات مهمة. فالكتب “تولد حصراً من تلك التي سبقتها أو بسببها أو حولها، وكل رواية تحكي قصة سبق أن رويت”، كما يؤكد أمبرتو إيكو.
في هذا المقال، سأشارك معك أهمية كتب الاقتباسات للتمكن اللغوي، وسأبين لك صعوبة الكتابة في هذا المجال الذي يبدو هينا يسيرا لصغار العقول. سأذكر أهم الانتقادات لهذه الكتب والردود عليها، وسأنهي المقال باقتباسات على أهمية الاقتباسات لتكوين الملكة اللغوية، مع بعض النصائح والإرشادات لكيفية اختيار كتب الاقتباسات المناسبة لك.
فوضى الاقتباسات
إذا بحثنا عن “الاقتباسات” في محرك البحث Google، سنجد الكثير من المواضيع التي تتحدث عن “أجمل الاقتباسات”، “أفضل الاقتباسات”، وغيرها من صيغ التفضيل المرتبطة بالاقتباسات. ومع ذلك، عند فتح هذه الروابط سنجد عبارات ومقولات ينقصها التأصيل العلمي والنسبة لأصحابها. ورغم ذلك، لا نعتبر هذه الاقتباسات ما نتحدث عنه في هذا المقال.
الاقتباسات التي نتحدث عنها يمكن أن نعرفها إذا عدنا إلى نصيحة ابن خلدون لطلاب الأدب والكتابة، حيث يقول: “سمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول فن الأدب وأركانه أربعة دواوين وهي: أدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب الكامل للمبرد، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ وكتاب النوادر لأبي علي القالي”.
الكتب التي ينصح بها ابن خلدون هي ذاتها التي ينصح بها كثير من الأدباء الكبار مثل طه حسين والعقاد والمنفلوطي، وهذه النصيحة “إ لم تتغير منذ ألف عام، هي نفسها ما تزال تعمل” كما يقول الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري.
ومع ذلك، عند عودتنا إلى الكتب السابقة والتي ينصحون بقراءتها، نجد أن بعضهم مثل الجواهري ينصح بالحفظ، ولا يتوقف الأمر على القراءة فقط. سنجد أنها مجرد كتب اقتباسات لأقوال العرب.
فكتاب البيان والتبيين للجاحظ هو كتاب اقتباسات لأقوال بلغاء العرب وفصحائهم، وإذا رجعنا إلى كتاب النوادر لأبي علي القالي سنجد أنه كتاب اقتباسات أيضًا.
إذًا، من أراد التمكن اللغوي عليه بقراءة كتب الاقتباسات التي يجمع بها عيون الشعر والأدب العربي الخالص.
اقتباسات شعرية من دواوين الشعراء
في العصر الحديث، نجد أن بعض الكتاب جمعوا اقتباسات من الشعر، مثل عارف الحجازي في كتابه “أول الشعر: عصارة الشعر الجاهلي والإسلامي والأموي”، وكتابه “آخر الشعر: رحلة النهاية للشعر العمودي في القرن العشرين”، وكتابه “تجدد الشعر: زبدة الشعر العباسي من بشار إلى البحتري”، وكتابه “إحياء الشعر: البارودي والزهاوي والرصافي والجواهري”، وكتابه “تألق الشعر: عصر المتنبي من ابن الرومي حتى سقوط بغداد”، وجميعها اقتباسات واختيارات شعرية.
جواهر الأدب: مقدمة كتاب أحمد الهاشمي
يقول أحمد بن إبراهيم بن مصطفى الهاشمي في مقدمة كتابه “جواهر الأدب، في أدبيات وإنشاء لغة العرب”: “أما بعد، فهذا كتاب سميته” جواهر الأدب، في أدبيات لغة العرب “أودعته ما وقع عليه اختياري، ليس من نثري وأشعاري، فليس لي في تأليفه من الافتخار أكثر من الاختيار، واختيار المرء قطعة من عقله، تدل على تخلقه وفضله، وفضيلة هذا التأليف هي في جمع ما افترق، مما تناسب واتسق، واختيار عيون، وترتيب فنون، من أحاديث نبوية، ومكاتبات أدبية وحكم باهرة، وأبيات نادرة، وأمثال شاردة، وأخبار واردة، ووصايا نافعة ومواعظ جامعة، ومناظرات مستظرفة، ومقامات مستطرفة، وأوصاف عالية وخطب اجتماعية، والله -سبحانه وتعالى- هو الموفق للصواب، إليه المرجع والمآب”.
رغم أن المقدمة والكلمات بليغة وهذا يشير إلى قوة الكاتب وتمكنه اللغوي والبلاغي، إلا أنه يصرح أن كل ما يتضمنه الكتاب هو اختياره لا من نثره وأشعاره، وهذا ليس بالأمر الهين، فالاختيار والاصطفاء مهمة عسيرة لا يتقنها إلا من تذوق حلاوة الأدب واستعذب الألفاظ والتراكيب ليميز بين البليغ منها والأكثر بلاغة. وهذه مهمة عسيرة إلا لمن امتلك اللسان الفصيح، ويسر الله له الوقت لهذا الجهد العظيم.
انتقادات وردود
بعض الناس يستهينون بالاقتباسات ويجحدون قيمتها. ولكن الاقتباسات مثل أي محتوى آخر: يمكن أن تكون مفيدة، ويمكن أن تكون عبثية وأحيانا مضرة، بحسب من نقتبس منهم، وفي تاريخنا وتاريخ الشعوب الأخرى كُتُبًا كثيرة تحتوي على اختيارات وانتخابات لأفكار أقول مفكريهم وأدباءهم وفلاسفتهم.
وانتقاد كتب الاقتباسات قد يكون محقاً فيما لو كان جامع الاقتباسات ليس على المستوى الذي يؤهله لاختيار أفضل الأقوال وأجمل التراكيب وأسمى المعاني، فهذا الاختيار جهد لا يقل جهدًا عن الكتابة، فقراءة منثور عصر بأكمله واختيار أفضله ليس أمراً سهلاً. بشكل عام، فإن أفضل كتب اللغة العربية التي تعزز الملكة اللغوية وتزيد من قوة البيان لطلاب الأدب والكتابة هي كتب الاقتباسات من عصور الاستشهاد.
المعاني والألفاظ عند الجاحظ
قال الجاحظ: “إن المعاني ملقاة على قوارع الطريق، وإنما يتميز الناس بالألفاظ، فالمعاني يعرفها العجمي والعربي، البدوي والقروي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ”، وإذا سألنا كيف يمتلك الكاتب هذه الألفاظ ويمتلك مخزونًا من الألفاظ بحيث ينتقي فيه ما يناسب الوزن فإننا سنجد أنفسنا ننصحه بكتب الاقتباسات من أشعار العرب وأقوالهم.
وقول الجاحظ في الألفاظ والمعاني يتوافق مع ما يقوله السقاف في كتابه “العود الهندي”، فالألفاظ هي التي لا تتفاوت الدرجات وتتمايز المقادير إلا بها، أما المعاني: فقد تجد في كلام العامة ما لا تجد مثله منها في أشعار الفحول.
طه حسين وعلي الطنطاوي.. اتفاق واختلاف
أما في العصر الحديث، فنجد أن طه حسين ينصح الكتاب الجدد بكتب الاقتباسات بطريقة أو أخرى فيقول: “من أحس القدرة على الكتابة أو أحس القدرة على نظم الشِعر ثم جرب نفسه فاستقامت له الكتابة أو استقام له الشِعر يجب أن يقرأ ما وسعته القراءة في نثر القدماء وشِعرهم؛ أولًا وفي نثر المعاصرين وشعرهم بعد ذلك”.
ولعل كتب الاقتباسات التي جمعت فيها زبدة الشعر وعيون الأدب هي أفضل الكتب التي تضم نثر القدماء وشعرهم ونثر المعاصرين وشعرهم، إلا أن علي الطنطاوي في الجزء الثامن من كتابه الذكريات يخالف طه حسين بهذه النصيحة من حيث ترتيب القراءة فيقول: ” نهجت في درس الإنشاء نهجًا جديدًا لا عهد للمدارس ولا للجامعات بمثله، وهو أن نبدأ في تدريس الأدب من أدباء عصرنا لأن أساليبهم أقرب إلينا وموضوعاتهم أمسّ بنا، لا من العصر الجاهلي (كما كنا نفعل) ثم ننتقل منه إلى العصر الأموي فالعباسي”.
وهذا محمد البشير الإبراهيمي أيضًا يؤكد على هذه البديهية بقوله: “نصيحتي الخالصة للأدباء الناشئين أن يوفوا حظهم من قراءة الكتب العامرة التي تقوى بها الملكة، ويفحل الطبع وتزكو الثمرة، فإني أرى في كثير مما أقرأ هذه الأيام من الآثار الأدبية لناشئتنا أعراضًا تشبه أعراض فقر الدم في الأجسام: نحولٌ واصفرار”. الك
أهم كتب الاقتباسات في اللغة العربية التي نصح بها الأدباء والمفكرين:
- جواهر الأدب لأحمد الهاشمي: كتاب يشتمل على مجموعة من الأقوال والأخبار والأشعار والأمثال والحكم والمواعظ، وينقلها بأسلوب رفيع ومتقن.
- الكامل في اللغة والأدب للمبرد: كتاب يعتبر من أوائل كتب النحو والبلاغة والنقد اللغوي، ويحتوي على شواهد شعرية ونثرية من العصر الجاهلي والإسلامي.
- البيان والتبيين للجاحظ: كتاب يبحث في فنون البلاغة والإنشاء والمحاورة والخطابة، ويستعرض أمثلة من الشعر والخطب والرسائل والحوارات.
- النوادر لأبي علي القالي: كتاب يضم مجموعة من القصص والحكايات والأخبار والأشعار والأمثال والحكم والمواعظ، وينقلها بأسلوب رائع وممتع.
من أراد التمكن اللغوي والثقافي عليه بقراءة هذه الكتب والاستفادة منها. فهي تزوده بالمعرفة، وتجعله أكثر قدرة على التعبير بأساليب أدبية رفيعة، وتربطه بتراثه وهويته وجذوره.