
وجوه العزاء وأقنعة السرد
في مجموعتها القصصية “عزاء بطعم الموهيتو” (دار ريادة، 2024)، تنسج الدكتورة سمر مدني علاقي عالماً غرائبياً مفعماً بالتجريب، حيث تلتقي تقنيات تيار الوعي ببنية القصة التقليدية. في القصة التي تحمل اسم المجموعة، نستحضر أجواء أورهان باموق في رواية “اسمي أحمر”، وأليف شافاق في “10 دقائق و38 ثانية في هذا العالم الغريب”، إذ تبدأ القصة بعد الموت، وتتجول الروح بين الأجساد والأمكنة.
ورغم أن بنية القصص تلامس ثيمات تيار الوعي من حيث التشظي، والأحلام، والوعي الداخلي، فإن الكاتبة حافظت على عناصر وأركان القص التقليدي، مما منح المجموعة توازنًا بين الشكل والمضمون، بين الحلم والواقع، بين الفلسفة والحكاية.
تسري فكرة تناسخ الأرواح كخيط روحي خفي بين القصص – من “الملك الفأر” وحتى “زوجة إبليس” – إذ تتحول الروح، وتُعذّب، وتختبر، في تجارب تتراوح بين الرمزية والعبث والسخرية السوداء. كل قصة تكشف عن رؤية مختلفة للعالم، للهوية، وللوجود، لكن تحتها جميعًا سؤال واحد: هل تمثّل هذه التحولات المتكررة للروح سعيًا لفهم الذات، أم هروبًا من حقيقتها؟

عتبات النص: العنوان والغلاف كبوابتين إلى عالم المفارقة
منذ البداية، يضعنا عنوان المجموعة أمام مفارقة لافتة: كيف يتجاور الحزن والاحتفال؟ كيف يصبح العزاء بطعم الموهيتو؟ هذه المفارقة تفتح أفقًا لتجربة سردية مركبة، حيث تتقاطع المأساة والملهاة، ويتداخل الواقع مع الخيال، والأسئلة الوجودية مع تفاصيل الحياة اليومية البسيطة.
وتترجم هذه المفارقة بصريًا عبر الغلاف، حيث تتناوب الألوان الداكنة الدالة على الموت والغموض مع لمسات الليمون والنعناع المشرقة، في استعارة بصرية تجسّد عالمًا قصصيًا يخرق التوقعات.
بهذا المدخل الثنائي – اللغوي والبصري – تمهّد الكاتبة لقراءة تتجاوز التلقي السطحي، وتُعيد صياغة مفاهيم الفقد والهوية والتحوّل في نصوص توظّف الرمز والسخرية لفتح نوافذ على العالم الآخر. إذ يشكّل العنوان والغلاف امتدادًا لهذا التوجّه، بوصفهما أدوات كشف واستبصار توجه القارئ نحو قراءة متعددة الطبقات.

السريالية والعبث: أدوات رمزية لتفكيك الواقع وكشف المسكوت عنه
تتجلى في المجموعة القصصية نزعة سردية نحو توظيف السريالية والرمز كأدوات فنية لتفكيك الواقع، وإعادة تركيبه رمزيًا، لتفضح المسكوت عنه اجتماعيا ونفسيا.
في قصة “الملك الفأر”، يُمسخ الملك المتجبر إلى فأر يعيش في بالوعة، ثم يُقدَّس من قبل فئران أخرى في مفارقة عبثية تهز مفاهيم المكانة الاجتماعية والهوية. هذا الانزياح السردي يفتح بابًا للتأمل في هشاشة القيمة الإنسانية للفرد، وسخرية الانقياد الجماعي خلف صور زائفة من المجد.
وتتابع الكاتبة هذا التوظيف الرمزي في قصة “إلا السروال!”، إذ يتحول السروال الداخلي إلى أداة إذلال اجتماعي تُهدد وجود الشخصية. وتختزلها في لحظة “عار” قاسية. المشهد، رغم طرافته الظاهرة، يُضيء بعين ساخرة على عبثية المقاييس الأخلاقية الجمعية، وما تخلقه من آليات تحقير وضغط يُفرّغ الإنسان من اعتباره الفردي.
كل ذلك يأتي في إطار سردي واعٍ، تستثمر فيه الكاتبة أدوات القصة القصيرة لاستكشاف “أسئلة تؤرق العقل الحائر”، كما تشير في مقدمة المجموعة، وتُفعّل الانزياح السردي والفانتازيا لطرح قضايا اجتماعية ووجودية.

بين الواقع والخيال: الراوي والزمن والمكان كأدوات لتشكيل التجربة السردية
اعتمدت الكاتبة على بنية سردية مرنة تتنقل بسلاسة بين الواقع والخيال، والحلم واليقظة، والحياة والموت، وبذلك تخلق عوالم هجينة مع العالم الواقعي من خلال ثلاث ركائز سردية: الراوي، الزمن، والمكان.
تتنوع أصوات السرد بين الراوي بضمير المتكلم، كما في “الملك الفأر” و*”العفريتة غندورة”*, الذي يمنح القارئ مدخلاً حميمًا إلى الذوات المتحوّلة، والراوي الغائب المحدود كما في “حفرة الموت”, الذي يحافظ على مسافة تأملية تتيح مقاربة الشخصيات من الخارج دون ذوبان فيها. يتيح هذا التناوب في زوايا السرد كشف التوترات الداخلية للشخصيات من جهة، وإبراز التناقضات بين الذاتي والاجتماعي من جهة أخرى، مما يعمّق فهم التحولات النفسية والشعورية للشخصيات.
يتوازى هذا التعدد في الأصوات ويتكامل مع تلاعب زمني محدود بتقنية الاسترجاع (Flashback) “سوارها النادر”، لكن تظل البنية الزمنية في معظم القصص أقرب إلى التسلسل الخطي وهذا أقرب لبنية القصة التقليدية، مع لمحات من التداعي والاستدعاء الشعوري متأثرة بتيار الوعي الذي تنتمي له موضوعات المجموعة.
كذلك، يتفاعل المكان مع الشخصيات، ويُظهر معاناتها أو يزيدها، فغرفة النوم في “إلا السروال!” تتحول إلى مصيدة للعار، والمصباح في “العفريتة غندورة” يتحول إلى سجن رمزي، فيما تعكس البيوت والطائرات والكهوف”استفاقة” عوالم مغلقة تحاصر الشخصيات وتعكس غربتها.
“هشاشة الهوية ومسخ الذات: الشخصيات في مواجهة التحوّل”
لا تُقدم مجموعة “عزاء بطعم الموهيتو” شخصيات مكتملة النمو بقدر ما تعرضها في لحظات تحول حاسمة أو لحظات حدّية كالموت، الفقد، الخيانة، التناسخ، شخصيات تتأرجح بين الوعي والانهيار، بين الذاكرة والمصير، وبين الإنسان وصورته الممسوخة. هنا بين دفتي هذه المجموعة تتحول الهوية من كونها جوهرًا ثابتًا للإنسان، إلى حالة سيولة وجودية، يمكن أن تنهار أو تنقلب في أي لحظة.
تُعد ثيمة البحث عن الذات أو فقدانها إحدى الركائز الأساسية في المجموعة، يتجلى ذلك في قصة “الملك الفأر”، عندما نشهد تحولًا مرعبًا من ملك متجبر إلى فأر في بالوعة، في مسخ وجودي يجرد الإنسان من سلطته ويضعه في موضع عبثي، حيث يُقدَّس رغم سقوطه. المشهد يُعرّي صور المجد الزائف ويهزّ مركز الذات.
هذا التلاقي بين التحول والهوية يعيدنا تلقائيًا إلى نصوص أدبية كبرى طرحت الإشكال نفسه، لعل أبرزها قصة “المسخ” لفرانز كافكا، عندما بتحول غريغور سامسا، موظف المبيعات البسيط إلى حشرة ضخمة، التحوّل هنا إضافة أنه حدث غرائبي، هو تعبير عن أزمة وجودية تطال معنى الإنسان ذاته، تمامًا كما فعلت الكاتبة في مجموعتها.
انطلاقًا من ذلك، يمكن القول إن الكاتبة ترسم شخصياتها كـأوعية للانهيار والتحوّل، لتطرح عبرهم سؤالاً وجوديًا عريضًا: ما الذي يصنع هوية الإنسان؟ وهل نحن من نختار ذواتنا، أم أن العالم يفرض علينا مسوخًا لا نملك إلا أن نرتديها؟

نكهات العزاء.. أسئلة بلا عزاء وعزاء بطعم الأسئلة
المجموعة تقدم العزاء كمساحة مفتوحة لاحتمالات متباينة، تراوح بين القسوة المادية والدهشة الوجودية، وبين الألم الخالص والسخرية المبطنة. العنوان نفسه يلخص هذا التوجه: عزاء بطعم غير مألوف.
في قصة “حفرة الموت”, يُجبر المجتمع الأرملة الشابة على المشاركة في طقس “الساتي”، حيث تواجه الاحتراق مع جثة زوجها، مشهد أقصى في تمثيل العزاء كعقوبة. في المقابل، تقدم قصة العنوان “عزاء بطعم الموهيتو” تجربة غرائبية احتفالية، حيث يتحول العزاء إلى مهرجان، تراقبه الروح الهائمة بحيرة واستياء. وفي “إفطار الأرملة السوداء” يتشابك الحزن مع الغضب والخيانة، فتأخذ مشاعر الفقد منحى انتقاميًا مفاجئًا. أما في “قدم بودا الكبير” و*”سوارها النادر”*, فالفقد يتخذ أبعادًا مادية ونفسية، حيث تتجلى الخسارة لا فقط في الفقد الفيزيائي، بل في الحب، والانتماء، والمعنى.
يذكرني هذا الارتباط بين العزاء والأسئلة الفلسفية بما رواه الأمير ميشكين في رواية الأبله لدوستويفسكي، حين خصص رجل محكوم بالإعدام الدقيقتين الأخيرتين من حياته للتفكير المكثّف في أسئلة الوجود والمصير ومعنى الحياة (يبدأ المشهد من الصفحة 114 من الطبعة العربية الثانية).

تذكر الكاتبة أن بعض القصص قد لا تحقق “النفع” لبعض القراء، وأنها تطرح حوارات “ليس لها إجابات شافية”—وهو اعتراف ضمني بالطبيعة الجدلية والإشكالية للنصوص. فالمجموعة لا تقدّم إجابات جاهزة، بل تفتح فضاءً للتساؤل والمشاركة.
إن استخدام السريالية والرمز يفتح الباب لتعدد التأويلات، ويحوّل القارئ من متلقٍ سلبي إلى شريك فاعل في بناء المعنى، في مواجهة أسئلة الكاتبة وشخصياتها.
“عزاء بطعم الموهيتو” نصوص كتبت لتعيد للقصة القصيرة بعدها التأملي، وتؤكد أن الأدب لا يُطمئن، بل يحرّض على التفكير ويحفز على المزيد من الأسئلة، وبهذا، تتحول عزاء بطعم الموهيتو من مجموعة قصصية إلى مختبر جمالي وفلسفي، يعيد تعريف حدود السرد، وسؤال الذات، ومفهوم الحكاية نفسها.