سَرْدِيَّات

الرتم الروائي والجملة الروائية.. مفاتيح الإيقاع السردي

الرتم الروائي والجملة الروائية.. مفاتيح الإيقاع السردي

من أهم مفاتيح الكتابة الإبداعية ، التحكم بإيقاع السرد، فالسرد المتقن مثل الموسيقى المؤثرة يأسرنا بإيقاعاته المتناغمة، مع روح وعقل القارئ لتجعله يقلب الصفحات واحدة تلو الأخرى.
فالرواية الخالدة ”رواية يعرف مؤلفها متى يسرع ومتى يتوقف، وكيف يقدر درجة الوقفات أو الإسراع، ضمن إيقاع أصلي ثابت” كما يقول أمبرتو إيكو.
تخيل عزيزي القارئ أنك تقود سيارة في رحلة طويلة، هل ستتوقف عند كل الاستراحات في طريقك؟ أنت تريد الوصول إلى وجهتك المنشودة، بأسهل الطرق، وأقصرها، وتتوقف فقط عندما تحتاج للتزود بالمؤن والوقود، وللراحة أحيانا.
ذات الأمر يحدث في كتابة القصة، من الضروري تجاوز الأحداث الروتينية غير الضرورية والانتقال إلى اللحظات المهمة، والأحداث البارزة.

ما هو الرتم الروائي؟

تجاوز الأحداث غير الضرورية لا يعني أن نكتفي بسرد الحكاية “العامود الفقري للرواية” فقط، لأنها ليست مثيرة وممتعة للقارئ كما يقول الروائي البريطاني إدوارد مورغان فورستر، أنما كتابة الرواية وفق إيقاعها المنضبط، فالرواية “فن كفن العمارة أو الشعر” كما يقول الناقد الفرنسي إندريه – ماريه البيريس، الذي يعتبر الرتم الروائي أو الإيقاع السردي هو الذي يمنح الحكاية فنيتها.
والمقصود بالإيقاع الروائي، السرعة ووتيرة تتقدم القصة، فأحيانا تتكشف الأحداث بسرعة، ويتدفق السرد بوتيرة متصاعدة، ثم لا يلبث أن يتباطأ، ليغوص القارئ بالتعرف تفاصيل العوالم الروائية، والشخصيات.

متى نسرع الأحداث، ومتى نبطئها؟

غالبا ما يرتبط الرتم “الإيقاع” السريع بالأحداث والمشاهد الأقل أهمية، بينما يرتبط الرتم “الإيقاع” البطيء بالمشاهد والأحداث الأكثر أهمية، والمتعلقة بتطور الشخصية، وأعداد العالم الروائي.
وعموما الإيقاع الروائي “تدفق السرد وتباطئه” لا يكون اعتباطا، إنما يرتبط بعدة عوامل منها؛ ما هو مرتبط بالقارئ “نظرية التلقي” ومنها ما هو مرتبط طبيعة النص، والكاتب بما يملكه من السلطة التقديرية للكاتب هو ضابط الإيقاع للسرد.
بمعنى آخر: على الكاتب بما يملكه من سلطة تقديرية ضبط الرتم، وتنظيمه، من خلال تحديد الأحداث التي سيقضي القارئ فيها وقتا أطول، وتحديد المشاهد والأحداث التي تكون وتيرة السرد فيها مرتفعة ولا يقضي القارئ فيها وقتا طويلا.

كيف نسرع الأحداث، وكيف نبطئها؟

تخيل عزيزي القارئ أننا “أنا وأنت” نشاهد فيلماً سينمائياً، دعنا نحلل الفيلم، سنجد أن بعض المشاهد ذات إيقاع سريع، ومشاهد أخرى هادئة ومليئة بالتأمل، والتناوب بين النوعين “الرتم السريع والبطيء للمشاهد” هو ما يخلق متعة الفرجة.
بنفس الآلية يمكن أن نتحكم في إيقاع القصة، من خلال استخدام أداتين فعالتين، هما الوصف والسرد، لخلق تجربة قرائية خالدة بذهن المتلقي تشبه المتعة المتولدة عن مشاهدة الفيلم.

الوصف

الوصف بالنسبة للقصة يشبه الريشة بالنسبة للوحة، فإذا أسرف الرسام في استخدام ريشته بألوان كثيرة غير متناسقة، أنتج لوحة مزدحمة بتفاصيل غير مهمة، كذلك الأمر إذا بالغ الكاتب في وصف التفاصيل غير المهمة أنتج قصة بطيئة الرتم، مملة للقارئ.
ولتجنب ذلك، على الكاتب أن ينتقي التفاصيل المهمة في المشهد الروائي، ويهمل التفاصيل الزائدة، وأن يعرف متى يعمل على إبطاء رتم الرواية من خلال الوصف الذي يسميه أمبرتو إيكو “فن التهدئة”، فالوصف يؤمن مساحات هادئة في النص تمهد للأحداث المهمة والمشوقة ذات الإيقاع السريع.
الحاجة إلى الوصف “ فن التهدئة ” لتهيئة المشهد للحدث المشوق، يشبه حاجة الرسام للظل ليظهر الضوء، وكحاجة الموسيقي إلى الصمت ليبرزَ أنغامه العذبة.

السرد

هو النافذة التي نُطلّ منها على عقول شخصياتنا، ونستكشف دوافعهم ومشاعرهم وأفكارهم، فمثلا في رواية “خبز على طاولة الخال ميلاد” يمكننا أن نقرأ التوظيف المُتقن للسرد الروائي، فمن خلاله نُغوص في عقل الشخصية المحورية “ميلاد”، ونعيش صراعه الداخلي بأبعاده النفسية والأخلاقية، وصراعه الخارجي مع المجتمع الذي لا يتسامح مع طبيعة ميلاد المختلفة، المجتمع الذي يكرس فكرة نمطية عن الرجل تخالف طبيعة ميلاد. وكذلك في رواية “الجريمة والعقاب” لفيدور دوستويفسكي. فمن خلال السرد، نُغوص في عقل راسكولينكوف، الشخصية الرئيسية، ونعيش صراعاته المختلفة.
وكما هو حال الوصف المفرط، فالسردالمُفرط أيضا يُبطئ وتيرة الأحداث ويُشتت القارئ.

الوصف والسرد في روايتي البوكر ” خبز على طاولة الخال” و “تغريبة القافر” 

“لصنع خبز جيد، أجهز نفسي جيدا للعملية لذا؛ أقوم في البداية بتمرين نفسي وجسدي. أعمل على تمديد ذراعي إلى أعلى، ثم أمر إلى الضغط على جذعي، والقليل من تمارين القرفصاء. الحسنة الوحيدة التي غنمتها من العسكرية هي التمرينات العضلية التي تترك أثرا في جسدي، إنها تدفعني إلى النشاط وأخذ الأمر بجدية، وتتركني في حالة من الرضا على النفس، وهذا ما أحتاج إليه عند البدء في العجن والخبز، أن أكون راضيا عن نفسي، تاركا أفكاري في حقيبة خفية أرميها خارج المطبخ قبل الدخول، كما أترك عجلة الزمان تدور كما تشاء، فأنا على موعد غرامي مع فتاة جديدة أحتاج في مواعدتها إلى نسيان بقية الفتيات”.
فهو يصف لنا كيفية تجهيز نفسه لعملية الخبز وبنفس الوقت يسرد لنا جوانب من ذكرياته في خدمته الإلزامية في الجيش، ليشرح بتفاصيل كيفية اكتساب مهارته، وعادته اليومية في ممارسة الرياضة، أي أن الوصف هنا يتفاعل ويمتزج مع السرد ليخلق تجربة سلسلة لطيفة بعيدة كل البعد عن الملل الذي ينتابنا عندما نقرأ وصفا دقيقا وكثيفا وطويلا، ومجردا عن الأحداث التي تدفع القصة للأمام، كما في المشهد الأخير في رواية البوكر “تغريبة القافر” التي تتمتع بلغة شاعرية، رقيقة، وجميلة، لكنها في مواضع كثيرة تسهب في الوصف بشكل كثيف مما يجعل الملل قد يتسرب لبعض القراء غير المعنيين بجمال اللغة وشاعرية التراكيب الوصفية. 

كيف نخلق التوازن الحرج بين الوصف والسرد؟

يشبّه أومبرتو إيكو قراءة الرواية بالتجوّل في غابة فإذا “لم نكن مضطرين للخروج منها بأيّ ثمن، خوفًا من الذئب أو الغول، فإننا سنمكث هناك لمراقبة لعبة الضوء المتسلل من بين الأشجار محدثًا بقعًا وسط الغابة، وتمحّص الفقاعات والطفيليات والأعشاب المنتشرة عند أقدام الأشجار. إن التريث لا يعني مضيعة للوقت، فغالبًا ما نفعل ذلك لكي نفكر مليًا قبل أن نتخذ قرارًا”.
ولأن “التريث ليس مضيعة للوقت” كما يقول إيكو، فعلى الكاتب أن يصنع تقنيات للتهدئة، وأخرى للتسريع، ليتمكن القارئ من القيام بجولاته في غابة السرد المتقن، من خلال التنويع في أساليب السرد، فتارةً نُقدم سرداً مفصلاً يستكشف أعماق الشخصيات، وتارةً أخرى نكتفي بإشارات خفيفة تُلمّح إلى أفكارهم ومشاعرهم.

الإيقاع الروائي وقفزات الزمن في الرواية والسينما

يمكننا الاستعانة بالتشابه مع الأفلام لفهم الإيقاع الروائي، أو الرتم القصصي. تخيل فيلمًا به الكثير من اللقطات الثابتة الطويلة في مكان محدد، هذه المشاهد الطويلة بكميرا ثابتة قد تشعر المشاهد بـالملل، لذلك يعمد المخرج على التنويع بتموضع زوايا الكاميرا، ويقسم المشهد إلى لقطات مختلفة وزوايا الكاميرا متعددة (لقطات مقربة، وآخرى بعيدة)، لزراعة التشويق لدى المشاهد، ويزول الملل، رغم أن الحدث، والحوار، والمكان ذاته لم يتغير.
فمثلا، في بداية فيلم سارقي التابوت الضائع “Raiders of the Lost Ark”، نشاهد الدكتور هنري والتون «إنديانا جونز» وهو يُعدّ عدته للدخول إلى معبد قديم، ثم فجأة، نجده داخل المعبد يحمل شعلة لإضاءة المكان، متى أشعل الشعلة، كم عدد المحاولات الفاشلة في لأشعالها؟.
كل ذلك لا يهم؛ لقد قفز المخرج لبضع دقائق إلى الأمام، متجاوزاً مشهد إشعال الشعلة الذي لا يُضيف شيئاً للقصة، وهذا ما يسمى قفزات الزمن، وهي تقنية تستخدم لمعايرة الإيقاع الروائي، وضبطه بدقة تجنبا لملل المشاهد والقارئ.
وللاستخدام الأمثل لقفزات الزمن؛ ركز على اللحظات الحاسمة، التي تشكل علامات فارقة في سلسلة الصراعات والأحداث الروائية، وتجاوز التفاصيل غير المهمة، ثم أعد توجيه القارئ بعد كل قفزة زمنية للعالم الروائي من خلال وصف التغيرات في المكان والزمان وحالة الشخصيات.
فلا تنس التنويع بين الجمل الروائية، بعد معرفة وظيفة ودور كل جملة، وتأثيرها على الرتم الروائي، وبغض النظر على نوع الجملة “حوارية، وصفية، سردية”، فإن الجمل القصيرة تُسرّع من الرتم القصصي، بينما تُبطئن الجمل الطويلة، مُتيحةً للقارئ استيعاب الأحداث والتأمل الطويل بالمشهد.
لمزيد من الأمثلة والتدريبات، سجل في ورشة:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

سرديات: مَصدركَ الأمن لتَعَلَّمَ تقنيات الكتابة، واكتشاف العوالم السحرية للأدب، والكتابة الإبداعية.