
في إطار مهرجان “الكتاب” الدولي المقام بمدينة مالقة بإسبانيا، نشرت قناة Escribidores 2024 على اليوتيوب لقاءً مع الكاتب النيكاراغوي سيرخيو راميريث، الذي كان نائبًا للرئيس في بلاده في فترة الثورة الساندينية، يروي للمشاهدين قصة حياته المثيرة والمتنوعة، وكيف تأثرت كتاباته بتجربته السياسية والإنسانية.
من السياسة إلى الكتابة: رحلة كاتب وفيلسوف
يقول راميريث إنه بدأ الكتابة في سن مبكرة، ونشر أول رواياته عام 1970 بعنوان “زمن التوهج”، والتي تتناول الحياة الاجتماعية والسياسية في نيكاراغوا في ظل الديكتاتورية العسكرية. يضيف أنه كان محاميًا وصحافيًا وناشطًا حقوقيًا، وأنه قرر العودة إلى بلاده في السبعينيات بعد أن عرض عليه مخرج مسرح فرنسي العمل ككاتب سيناريو في باريس. ثم انضم للثورة الساندينية ضد الديكتاتور سوموزا، وشارك في القتال والدبلوماسية.
يصف للمشاهدين مشهد دخوله ساحة الثورة على متن شاحنة إطفاء مع باقي أعضاء المجلس الثوري، الذي تشكل بعد سقوط سوموزا عام 1979. وكيف إنه كان يشعر بالفرح والحماس والخوف في آن واحد، وأنه سمع صوت الناس يهللون ويهتفون باسم الحكومة الجديدة. وكان يومها يمثل مجموعة الـ 12 “مجموعة من المثقفين والمدنيين الذين دعموا الجبهة الساندينية”. يذكر أن المجلس الثوري كان مكونًا من خمسة أعضاء، من بينهم دونا فيليتا دي تشامورو، التي أصبحت فيما بعد رئيسة نيكاراغوا، وألفونسو رو إيلو، رئيس اتحاد رجال الأعمال، ودانييل أورتيغا، الذي كان قائدًا عسكريًا في الجبهة الساندينية.
يستفيض بالحديث عن تجربته كنائب للرئيس في حكومة الجبهة الساندينية، وكيف حاول تحقيق السلام والديمقراطية والتنمية في البلاد. يقول بعد خسارة الانتخابات عام 1990 أمام دونا فيليتا دي تشامورو، التي كانت زميلته في المجلس الثوري. قرر التفرغ للكتابة، لكن الدستور أجبره على البقاء في البرلمان كزعيم للمعارضة. ورغم يشرح محاولاته تعديل الدستور لجعله أكثر ديمقراطية، ومنع إعادة انتخاب الرئيس وفصل السلطات وتقوية القضاء. إلا إنه واجه مقاومة من زملائه السابقين في الثورة. مما أدى إلى انسحابه من الجبهة الساندينية وتأسيسه حزبًا سياسيًا جديدًا، يسمى الحركة الاجتماعية الديمقراطية. ثم ترشح للرئاسة عام 1996، لكنه فشل في الفوز بسبب التطرف السياسي في البلاد.
يبين إنه كان دائمًا مهتم بموضوع السلطة وتأثيرها على الإنسان، وهو ما يظهر في كل أعماله الأدبية. وإنه كتب عن الحياة والموت والحب والحرب والثورة والديكتاتورية والديمقراطية والتاريخ والخيال. وقد تأثر بالأدب اللاتيني الأمريكي والأوروبي والعالمي، وترجمت أعماله إلى أكثر من عشرين لغة.
الجريمة المنظمة والديمقراطية في أمريكا اللاتينية
في القرن العشرين، كانت الأنظمة الجمهورية في أمريكا اللاتينية تختلف من بلد إلى آخر. بعضها كان يحترم الانتخابات والمؤسسات والديمقراطية، مثل أوروغواي وتشيلي وكوستاريكا. بعضها كان يعاني من الانقلابات العسكرية والديكتاتورية، مثل الأرجنتين والبرازيل والبيرو. هذه الأنظمة الاستبدادية لم تدمر الدولة، بل وضعتها في حالة تعليق. عندما انتهت هذه الأنظمة، استعادت الدولة دورها وفصلت بين السلطات.
في القرن الواحد والعشرين، ظهر عنصر جديد في الخريطة السياسية، وهو الجريمة المنظمة. الجريمة المنظمة ليست مجرد مجموعة من المجرمين، بل مجموعة من الخبراء والمحترفين والاستراتيجيين. الجريمة المنظمة تمتلك أموالًا ونفوذًا وسلطةً. الجريمة المنظمة تتحكم في الدول وتؤثر في السياسة. الجريمة المنظمة تتحالف مع السياسيين التقليديين، وهذا يشكل تحديًا للديمقراطية. الجريمة المنظمة تعمل عبر الحدود، وتمتلك السلطة في الكارتيلات الرئيسية التي تعمل من المكسيك إلى جنوب أمريكا. الجريمة المنظمة تسيطر على الهجرة وتتحدى الرؤساء، من ترامب إلى لوبيز أوبرادور.
الجريمة المنظمة تهدد الديمقراطية في أمريكا اللاتينية. حتى في كوستاريكا، التي كانت دائمًا مثالًا للديمقراطية المستقرة والمؤسسات الفعالة، أصبحت الجريمة المنظمة تؤثر في الانتخابات المحلية لأول مرة. القضاة الانتخابيين يعبرون عن قلقهم من تأثير تجارة المخدرات على توجيه الناخبين. هذا أمر جديد ويشير إلى أن الوضع أكثر قلقًا، حيث تتدخل الجريمة المنظمة في العملية الديمقراطية.
الأدب وموضوعاته الكبرى
الأدب هو فن الكلمة الذي ينقل مشاعر وأفكار وخيال الكتّاب إلى القراء. في الأدب، نجد موضوعات متكررة تمس جوانب مهمة من الحياة الإنسانية، مثل الحب، الجنون، الموت، والسلطة. هذه الموضوعات تعبر عن تجارب وتحديات الكتّاب والشعوب في زمانهم ومكانهم. في أمريكا اللاتينية، تظهر هذه الموضوعات بأبعاد خاصة، خصوصاً موضوع السلطة، الذي يرتبط بتاريخ الثورة والاستبداد والنفي في هذه القارة. السلطة هي قوة تحكم الناس وتغير مصايرهم، وأحيانًا تصبح مجنونة وظالمة.
أنا كاتب أهتم بموضوع السلطة وتأثيرها على الناس، وكيف تجعلهم ضحايا أو مقاومين أو منفيين. النفي هو موضوع آخر كبير في الأدب، وهو ما نسيته في البداية، لأنني أعيشه شخصيًا. النفي هو حالة البعد عن الوطن والهوية، وهو ما عانى منه الكثير من الكتّاب والشعوب في أمريكا اللاتينية. لقد كانت حياتنا مليئة بالنفي، مثل الإسبان الذين نزحوا من بلادهم في أوقات مختلفة. هذا النفي ساهم في تشكيل هويتنا المزدوجة بين اللاتينية والإسبانية. وكما أن النفي الإسباني أثرى أمريكا اللاتينية، فإن النفي اللاتيني أثرى إسبانيا.
الإنسان والتغيير
الإنسان لا يبقى على حال واحد طوال حياته، بل يتغير مع الزمن والظروف. لا يمكنني أن أحكم على الماضي بمقاييس الحاضر، فهذا سيفقدني هويتي. فكل إنسان يعيش حسب عصره ومكانه ومعتقداته. عندما كنت شابًا في عام 1979، شاركت في ثورة في نيكاراغوا، لأنني كنت أرى فيها معنى لحياتي. الآن، بعد أن كبرت وجربت، لا أستطيع أن أفعل نفس الشيء، فالعالم تغير وأنا تغيرت. لا يمكنني أن أعيد كتابة حياتي بناءً على ما أعرفه الآن، فهذا مستحيل. الواجب علينا أن نتعلم من ماضينا وننصح أحفادنا بما هو خير لهم. لكنهم قد لا يسمعون لنا، كما لم نسمع لأجدادنا.
يعبر للكتّاب عن تجاربهم ومشاعرهم في كتبهم. من الصعب أن أختار كتابًا واحدًا أفتخر به، لكنني أحب كتابي “Dios muchachos”، لأنني فيه قلت ما أردت قوله. لم أكن أكتب تاريخًا للثورة، بل شهادة عن حياتي ومغامراتي. أردت أن أشرح لماذا تركت كل شيء وذهبت للقتال. هذا هو ما يهمني ككاتب، أن أشارك قصتي مع القراء. الآن، أود أن أكتب عن تلك السنوات مرة أخرى. ليس لدي الكثير من الوقت. لذلك قررت أن أكون مؤرخًا وليس خياليًا. لا أريد أن أفقد لقب كاتب الخيال. لا أريد أن أترك مكتبي. أعيش الآن ككاتب منفي، وهذا هو قدري.
النفي والكتابة والديكتاتورية
أنا كاتب مُنفى من نيكاراغوا، البلد الذي شهد ثورة عنيفة أجبرتني على فقدان جنسيتي وممتلكاتي. هذا أمر مؤلم جدًا، ولولا الكتابة لكنت أشعر باليأس والحزن. الكتابة هي الشيء الوحيد الذي يعطيني أملا وأمانا، وهي الوسيلة التي أستطيع من خلالها التعبير عما أراه وأشعر به. لا أستطيع الكتابة في بلدي، فأنا أعيش في مدريد. هناك لدي مكان خاص للكتابة، وهو مكتب صغير في شقتي، حيث أجلس أمام حاسوبي وأبدأ في صناعة عوالمي الخيالية. أحد العوالم التي أحب أن أكتب عنها هو عالم الديكتاتوريين، مثل Ortega، الذي يحكم نيكاراغوا بقبضة من حديد. هؤلاء الناس يعيشون في عالم خيالي، يظنون أنهم خالدون، وأن نظامهم لا يمكن أن ينهار. هذا هو النفي الحقيقي، فهم ينكرون الواقع ويتجاهلون المعاناة التي يسببونها للشعب. يواصلون تنفيذ مشاريعهم السياسية، ويعتقدون أنهم لا يخطئون، وأن مشاريعهم لا تحتاج إلى تصحيح أو تغيير. لكن التاريخ يعلمنا أن هذا غير صحيح. في النهاية، تصطدم الأنظمة الاستبدادية والديكتاتورية بأزمات تقضي عليها.
في أمريكا اللاتينية، نعرف أن هناك أنظمة تستمر حتى وفاة الديكتاتور في سريره. هذا لا يقلل من أملي، ولكن يجب أن نكون واقعيين. في كوبا، نظام يستمر منذ عام 1959، والبلاد الآن في حالة من الفقر والانحطاط، ومع ذلك، لا تزال السلطة السياسية مستقرة. هذا هو الواقع المرير.
الرجل القوي، الديكتاتور، الذي يحكم بمفرده، في غياب المؤسسات، يحول شخصيته إلى مؤسسة. وهذا يتكرر، فالأمور ترجع إلى الاستبداد. لا يهم عمر الديكتاتور، أو زمنه، فهو يتبع نفس الفكرة. هناك تغيير في الشعبوية، ليس فقط في أمريكا، بل في العالم. وإذا أردنا أن نتحدث عما يحدث في الولايات المتحدة وتأثيره على المكسيك وأمريكا الوسطى، فإننا نرى أن الأمور تتغير بسرعة. ولكن يجب أن نكون حذرين. هذا ما أريد أن أقوله للجمهور، وهذا ما أكتبه في مقالاتي. أنا كاتب مُنفى، ولكني لست وحيدًا. هناك الكثير من الكتّاب الذين يشاركونني نفس المصير ونفس الأمل. نحن نكتب لنعيش، ولنجعل العالم يعيش.
هل ترامب سيعود للحكم؟
أنا كاتب من نيكاراغوا، وأنا قلق بشأن مستقبل بلدي والعالم. أتساءل عما سيحدث إذا فاز ترامب بالانتخابات الأمريكية مرة أخرى، وما هي الآثار التي سيخلفها على السياسة الدولية. هل سيكون بايدن قادراً على مواجهته؟ ربما لا، لأن بايدن لا يدرك شيئا. علينا أن نحترس من هذا الاحتمال. التغيير قادم وسيؤثر على أمريكا والعالم كله، إذا حكم ترامب مرة أخرى، ستتحول حرب أوكرانيا إلى شيء آخر. اليوم، في صحيفة روسية، يتحدث بوتين بسعادة عن فرصة عودة ترامب، لأنه يراه صديقاً لروسيا. هذا يثير قلقي، فماذا سيحدث لأمريكا الوسطى في هذه الفترة؟ لا أدري. كانت سياسة ترامب متغيرة، وكانت قاسية في موضوع الهجرة. سياسة بايدن أيضاً ترفض الهجرة، لكن أعتقد أن بناء الجدران لا يحل المشكلة. ستزداد مشكلة الهجرة، لأنها ترتبط بالأزمات الاقتصادية والاجتماعية في أمريكا اللاتينية والعالم. الآن، نيكاراغوا هي ممر للمهاجرين، ليس فقط اللاتينيين، بل أيضاً الأفارقة الذين يريدون الوصول إلى أمريكا. هناك مئات الآلاف من الناس يعبرون نيكاراغوا. هذا يشكل تحدياً كبيراً للأمن والاستقرار في المنطقة.
الأدب والخيال: رؤية تحليلية
كتابي القادم تحليلي، سأحاول تحليل جميع الأنماط الأدبية، من القصص الخيالية إلى الروايات. فأنا مهتم بالأدب كفن وكوسيلة مبتكرة تستخدم الخيال لإنشاء عوالم جديدة، وشخصيات مثيرة، ومشاهد مثيرة. ومحبتي للأدب تكمن بانه يمنحني حرية الخيال، ويسمح لي بالهروب من الواقع المرير.