سَرْدِيَّات

الكتابة للحواس.. وبالحواس

عندما نتدارس الروايات الخالدة بوجدان القراء، والحائزة على إعجاب النقاد، والفائزة ببعض الجوائز، سنجد بينها قواسم مشتركة. في هذا المقال سنسلط الضوء على استثارة حواس القارئ، فأثناء قراءة هذه الأسفار الأدبية نقرأ بحواسنا الخمسة؛ فهي نصوص كتبت لجميع الحواس، ولا تقتصر على حاسة البصر التي يشبعها الوصف الجيد، إنها أعمال تستثير عواطفنا بالكلمات.. إنها الكتابة بالحواس.

 “الوصف العظيم يهزنا، يملأ رئتينا بحياة كاتبه، يجعله يغني من خلالنا” دونالد نیولوف

تركز بعض دورات الكتابة الإبداعية على أهمية الوصف في بناء المشاهد الروائية، كما تركز على استثارة العواطف، وهذا ولّد كتابات قصصية وروائية مستكملة الأركان، ناجحة نظريا وفق الوصفات الجاهزة.

النجاح النظري لهذه الأعمال لا يرافقه نجاح عملي ممثل بإشادة القرّاء، ولعل أحد هذه الأسباب هو استثارة بصر القارئ بالوصف، وإهمال حواسه الأخرى التي تتكامل مع النظر في تشييد مشاهد متعددة الأبعاد للوصول لفهم أعمق للإنسان والعالم والوجود.

ونظراً لجرعات التغذية البصرية العالية التي يتعرض لها الإنسان المعاصر، أصبح الوصف الطويل مملاً للقارئ الجديد؛ مما قلص مساحات الوصف في الأعمال الأدبية كما أن التركيز على الوصف فقط ينتج أعمالاً أحادية البعد، من خلال استثارة مخيلة القارئ بواسطة حاسة واحدة. وهذا يؤدي بالقارئ للوقوف على سطح العمل الفني دون السماح له بالغوص إلى الأعماق، فإما أن يكون العمل الفني سطحيًا ذو طبقة واحدة، أو أن الكاتب لم يتمكن من استكشاف هذه الأغوار العميقة والطبقات المتعددة لعمله الأدبي، من خلال استثارة جميع حواس القارئ.

 “أريد، بقوة الكلمة المكتوبة، أن أجعلك تسمع، أن أجعلك تشعر، وقبل كل شيء، أن أجعلك ترى” جوزيف كونراد

الكتابة بالحواس تعني أن تغذي المخيلة البصرية للقارئ بتأثيث المكان بما يتناسب مع الزمان والعالم الروائي، وكذلك تغذي المخيلة السمعية للمتلقي من خلال أصوات الشخصيات والسيارات والطائرات والانفجارات وتقطيع البصل والثوم، وكل الأصوات الصادرة عن الأشياء التي يتضمنها عالمك الروائي، وأفضل مثال عن رواية تحتفي بجميع الحواس، وتركز على حاسة السمع هي

رواية “تغريبة القافر” للعُماني زهران القاسمي، الفائزة بالجائزة العالمية للرواية العربية في دورتها 16، حيث ينقلنا الروائي بمشاهد تفوق الخيال للاستماع إلى أصوات الحشرات وخرير المياه في باطن الأرض.

ويغذي مخيلة القارئ الشمية، فيصف لنا الروائح بدقة لا متناهية كما هو حال حالة “غرنوي” بطل رواية العطر للروائي “باتريك زوسكيند”، الذي يمتلك قدرة عجيبة على تمييز رائحة الأشياء والحيوانات والبشر.

وأيضا يغذي مخيلة القارئ الذوقية، فيشعر بتذوق الأطعمة، وملوحة الدموع ومياه البحر، ولعل روية البوكر للعام الفائت “خبز على طاولة الخال ميلاد” للكاتب الليبي محمد النعاس قد احتوت على مشاهد كثيرة تتمازج فيها الحواس والمشاعر، ولا سيما حاسة الذوق فبطل الرواية ميلاد خباز ماهر يشرح لنا أسرار الطعم اللذيذ في كل نوع من أنواع المعجنات التي يصنعها.

ولا ننسى تغذية المخيلة اللمسية للقارئ كما في المشاهد الأخيرة من رواية “تغريبة القافر” ليصف لنا ملمس الأشياء حولنا بدقة متناهية، فنشعر بملمس الحجارة والطين ونسمع طرقات القافر على مسماره المعدني أثناء محاولاته اليائسة للخروج من الخاتم الذي حبس فيه.

لحظات الاستحضار.. من أسرار الكتابة بالحواس

يقول ستيفن كينغ “قبل أن أشرع في الكتابة، سوف أخصص لحظة لاستحضار صورة المكان من ذاكرتي، وأملأ بها عين عقلي لأفتح جميع حواسي”، يوافقه في ذلك نجيب محفوظ الذي سئل عن سر عدم كتابته عن القضية الفلسطينية رغم تأييده لها، فذكر أن”الرواية عالم معقد يحتاج إلى معايشة حقيقية للأحداث”، وهي ليست كالشعر، فالشاعر “يستطيع تناول أي موضوع يحس نحوه بعاطفة ما”.

أي، أنَّ المعايشة تُعَدُّ مسألةً ضروريةً للكتابة الجادة، وتتعاظم ضرورتُها في حالة الكتابة بالحواس. فالكاتب الواعي بضرورةِ معايشةِ المواقِف الحياتية للكتابة، غالبًا ما يكون منتبهًا ويقظًا لتفاصيل الحياة، وهو أشبهُ برادارٍ مزودٍ بأجهزةٍ حساسةٍ للحواس، وكاميراتٍ ثلاثيةِ الأبعاد تلتقط صور الحياة بدقةٍ متناهيةٍ، ليغذي الحواسَ المختلفةَ للمتلقي.

فالكاميرا ثلاثية الأبعاد ضرورية ومهمة، لكنها لا تنقل إلا حاسة واحدة فقط، أي أنها لازمة غير كافية.

 التفاصيل المتجذرة في الحواس

التفاصيل المتجذرة في الحواس الخمس هي شريان الحياة للكتابة الجيدة” كما تقول أليس لابلانت، لكن إحدى مشاكل الكتابة بالحواس أنها ليست سهلة، ولكنها ليست مستحيلة في نفس الوقت، فهي تتطلب الكاتب المتمكن من أدوات اللغة، والذي يملك قاموسًا لغويًا عزيزًا ينتقي منه المفردات والتراكيب كما يشاء، هذا القاموس اللغوي يمنح الكاتب القدرة على وصف الشعور المتولد عن رائحة الزعفران، أو الشعور المتولد عند تذوق فاكهة استوائية غريبة، وكذلك يولِّد لدينا الشعور الناتج عند لمس ثعبان في غابة إفريقية، بحيث يمكنه توليد الشعور بكل حاسة أو حتى بجميع الحواس في مشهد واحد، لينقل لنا الحدث الخارجي بتفاصيله الدقيقة، وما يعكسه على دواخل الشخصيات النفسية والفكرية.

بالمقابل، فإن هذه الكتابة ليست ضرورية لجميع الأعمال الأدبية، فالأديب الفطن هو من يختار الحواس الأكثر تأثيراً في المكان والشخصيات، والتي تؤثر في المشهد لإيصال المعنى، قد يكتفي بحاسةٍ أو أكثر. والعبرة ليست في كثرة تجلي الحواس في المشهد، بقدر ما هي بمداعبة مخيلة القارئ في إيصال المعنى.

كيف أكتب بالحواس الخمسة؟

قد تتساءل: كيف نكتب بالحواس الخمسة؟ والجواب التقليدي: عن طريق التدريب على الكتابة بالحواس الخمسة، وهذا يولد سؤالًا محددًا، وأكثر دقة: كيف يمكنني التدرب على الكتابة بالحواس؟

بدوري سأجيبك من خلال سؤال شخصي لك: ما هي وجبتك المفضلة؟

أيا تكن، جهز مكانا هادئا بعيدا عن المشتتات، أغلق الهاتف إن شئت، وأحضر وجبتك إلى طاولة الطعام، خذ لقمة أو ملعقة واحدة، لا تمضغ مباشرة، عليك أن تطيل زمن تذوقها، ضعها في فمك، تحسسها بلسانك، راقب ملمسها، استشعر طعمها الذي يتسرب إلى حليماتك الذوقية ببطء، لا تمضغها أو تهشمها بأسنانك، اترك سوائلها تتفاعل مع لعابك، وتتسرب إلى خلايا فمك ببطء.

أقضم بهدوء، وحاول أن تتحسس رائحة المكان، والوجبة، حاول إطالة الزمن قدر ما تشاء وتحسس هذه اللقمة بكل الحواس.

ثم اكتب عن ذلك، قد تبدو الكتابة غير ناضجة ومرتبكة.. لا عليك، تابع الكتابة وأكمل المشاهد لُقمة بعد أخرى، ولا تصحح ما تكتب، لا تعط هذه المسودات لأحد جهابذة النقد لتقييمها، فأنت بهذا تئد موهبتك في مهدها، قبل اكتمال نضجها، فكلماته ستكون خناجر مسمومة لروح الكاتب الحساسة. اعرف جيدًا ما سيقوله لك، أصلحه الله. اكتب للتمرين فقط.

كرر التمرين على وجباتك المختلفة، الفواكه التي تحب، المشروب المفضل.

يمكنك تعميق التجربة بقراءة كتاب “أفروديت”، حكايات ووصفات وأفروديتيات أخرى، للكاتبة الروائية التشيلية “إيزابيل الليندي”، الكتاب الذي يشكل “عزفا منفردا على مقام الرواية” كما يصفه المترجم رفعت عطفة، علما بأنه كتاب غير روائي، بل أكاديمي مكتوب بنفس وروح سردية.

وهذا التمرين مستوحى من تجربة الكاتبة التي وثقتها بالكتاب، ففي جلسة تأمل أعطيت حبة عنب وطلب منها أن تهضمها خلال 20 دقيقة، ثم تكتب عن ذلك، لتقول أنها بعد سنوات طويلة لا تزال تشعر بطعم حبة العنب تلك.

إذا لم تجد ذلك كافيا لاكتساب مهارة الكتابة بالحواس، يمكنك الانضمام إلى ورشتنا التدريبية “ورشة الكتابة بالحواس”، فستجد المزيد من الأمثلة التوضيحية، والتدريبات الموسعة، وأوراق العمل التفصيلية يمكنك التسجيل بالضغط على الرابط بالأسفل.

10 تعليقات على “الكتابة للحواس.. وبالحواس

  1. بارك الله في مجهوداتك دكتور ..

    الرائع حقاً هو أن محتوى المقالـة يتناول مفهوم الكِتابة من زاوية أخرى، صِدقًا لم يسبق لي وأن وجدتُ مثيلـه_بالرغم من كثرة اتطلاعي على المقالات المرشدة للكُتّاب_، وكأنني وجدتُ ما كنت ابحث عنه .
    أتمنى المزيد من هذا المحتوى القيّم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

سرديات: مَصدركَ الأمن لتَعَلَّمَ تقنيات الكتابة، واكتشاف العوالم السحرية للأدب، والكتابة الإبداعية.