ولدتُ في مدينة الرقة السورية على ضفاف نهر الفرات عامَ 1979 " ألفٍ وتسعِمئة وتسعِ وسبعين"، وفي بواديها الفسيحة نشأت استنشقُ الهواء المُخضب برائحة الشيح والقيصوم، واصطاد طيور القطا والصعو والحمام البري، وأرعى الخراف الوديعة، وأحصد الحنطة والشعير.
كانت طفولة مفعمة بالحياة في رحم الطبيعة الغَنَّاء، وتغذيت في طفولتي بحديث الجدادت وسوالف العمات والخالات.
وفي بلدة وادعة على ضفاف الفرات بدأت أتلقى تعليمي، كان تعليما تقليديا يشرف عليه بعضُُ المدرسين الأكفَاء، وكثيرُُ من المعلمينَ البسطاءِ.
كنت أعشق الحرف وأقدس الكلمة " ولا أزال" في مراحل دراستي المبكرة، فأقرأ بنهم، ساعدني على ذلك افتتاح مركز ثقافي بغرفة واحدة في بلدتي الصغيرة، إلا أنني كنت أعاني من ضيق القائمين عليه، وذلك من كَثرة تبديلي للكتب التي استعيرها ليوم أو يومين، بعض الكتبِ أنهىِ قراءَتَها وبعضها الآخر لا استطيع تحمل حمولته الفكرية فاستبدله بسرعة.
لِدرجة أن أمين المكتبة أحجم عن إِعارتي الكتبَ، وتوسط لي مهندس مدني "موظف بنفس البناء الذي يضم المكتبة" عند عامل المكتبة الذي اشتكى أنني أُشغِلهم باستعارةِ الكتب وتبديلها دون أن أقرها. لا تزال كلماتهُ ترن في أذني " وما علاقتك أنت.. وظيفتك أن تُعيرَهُ الكتاب قرأهُا أم لم يقرأهُا".
كلماتٌ عابرة، لا أظنُ أنهُ يذكُرها الآن. لكنها كانت علامةِ فارقةً بحياتي القرائية. كم أودُ أن أكونَ أنا الآخر علامةً فارقةً بحياة شباب آخرين لأُعِينهم على طريق القراءة والكتابة، وهي طرقٌ وعرة دون مُرشد ومنهج.
كانت القراءة مدخلي لعالم الكتابة، إلا أن بعض النصائحِ التي كنتُ أتلقاها أعاقت تقدميَ المبكرَ في هذا العالم، فغالبا ما ينصحوننا بالقراءةِ المُكثفة، طويلةِ الأمد، فهي الزادُ للكتابة، وهذا صحيحٌ نسبيا إلا أنني وجدت بعد تجربة طويلة أن هذه النصيحة ضارة للمبتدئين من الكّتاب، فالقراءة عالم واسع له بوابة دخول كبيرة لكنه بلا مخرج. فلو قضينا أعمارَنا في القراءة فإننا لن نكتفي ولن نرتوي، كنت أتمنى أن ينصحني أحدهم هذه النصيحة وهي أن تترافقَ الكتابةُ مع القراءة.
كنت أتمنى أيضا: أن يُرشِدَنِي أحدهم لضرورة وأهمية اكتسب عادة تلخيص الكتب التي أقرأها وما أكثرها، أو أن أصنع لنفسي قاموسا للمشاعر، أدون فيه ما ينتابني من أفراح وأتراح ليكون معينا لي عندما استدعي تلك المشاعر في كتاباتي المختلفة.
ارتبطت الكتابة بالنشر بطريقة لا واعية، وهما أمران مختلفان جِذريا. اقرأ عزيزي الشاب الشغوف بالكتابة واكتب، ولا يهم إن بدت كتاباتك تقمُّصََ لمن تقرأ لهم.
ألا يبدو غريبًا أن كثير من الكُتاب الموهوبين لم تصل أعمالهم إلى القراء في حياتهم، كانوا يكتبون بكل شغف، دون أن يكترثوا للمُحبطين . والآن، نحن نقرأ أعمالهم التي أصبحت أيقوناتِِ أدبية. مثل كافكا الذي "نُشِرت أعمالهُ بعد وفاته على يد صديقهِ ماكس برود" ونتسأل: عن كم من المواهب وئدت بسبب نصيحة خبيثة أو غبية، أو تنمر أديب جاهل أو مغرور..
في هذه اللحظات التي أخط بها هذه الكلمات أغُبِطك يا من تقرأها خصوصا إن كنت في بدايات حياتك الكتابية، فلو عرفت هذه النصيحة في البدايات لاختصرت على نفسي سنوات من الكد الذهني المضني.
دخلتُ عالم الكتابةِ مبكرا بأسماءَ مستعارة، ودخلت عالم النشر باسمي الصريح متأخرا، استعادة اسمي استغرقت سنوات طويلة. ولعل جُزءا من تستري خلف اسم مستعار أنني لم أدرك عظمة الكتابة الابداعية، وكانت كتاباتي تقريرية مباشرة، تسمي الأشياء بمسمياتها، لذلك تكون محفوفة بالمخاطر، مرة ثانية أغبطك يا من تمتلك الفرصة أن تعبر عن ذاتِك وتمتلِك أدواتِ الكتابة الابداعية و تكتبَ ما تشاء باسمك الصريح دون أن تتعرضَ لتضييق أو مساءلة.